![]() |
العلم المذكور فى القرآن والسنة
يشمل علم الدين وعلم الدنيا
وقد كتب بعض إخواننا الشرعيين فى بعض البلاد –عفا الله عنهم- كلاما أثبتوا فيه أن العلم الذى جاء ذكره ومدحه فى نصوص القرآن والسنة النبوية، كله فى العلم الشرعى والدينى وحده، ولا مجال فيه لمدح علم من علوم الدنيا والحياة. قالوا: ولا يجوز لنا نحن علماء المسلمين ودعاتهم: أن نأخذ ما جاء فى القرآن والسنة من آيات وأحاديث، لعلوم العقيدة والشريعة، إلى مجالات أخرى، لأن هذا يعتبر نوعا من التحريف المتعمَّد لكتاب الله تعالى، ولكلام رسوله!
نشر هذا الكلام فى بعض الصحف، فأزعج إخواننا المهتمين بأمر العلم وأصوله فى (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) بالكويت، وعلى رأسها رئيسها القوى الدكتور عبد الرحمن العوضى، وأمينها العام المساعد، الدكتور أحمد رجائى الجندى، والدكتور خالد المدكور، وغيرهم، ممن اتصلوا بى، وحدثونى فى الأمر، وقلت لهم: إن كلامهم خاطئ مائة فى المائة، ولى ردود علمية عليه، من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا. فقالوا لي: إننا نرجوك ونلح عليك أن تسارع بكتابة هذا الرد، وترسله إلينا بغاية السرعة، لننشره، ونعمم نشره، لنوحد ثقافة المسلمين، ونصححها، فميزة الأمة المسلمة أنها أمة ينصح بعضها لبعض، ولا يستكبر بعضها عن السماع لبعض.
وقد أرسلت ردى إلى الإخوة فى الكويت، ونشروه فى الحال بوسائلهم الميسورة والموفورة، ولهم فى ذلك أجرهم ونيتهم.
وها أنذا أضع ردِّى هنا فى هذه الرسالة الثقافية للمسلمين.
شمول العلم وتنوعه فى لسان القرآن:
دعوة الإسلام إلى العلم والتعلّم, وتنويهه بفضل العلم, ومنزلة العلماء, مما لايختلف فيه اثنان, ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية فى ذلك غزيرة مستفيضة، ولا يوجد دين من الأديان أفاض فى الثناء, على العلم وأهله كالإسلام, وحسبنا أن أوّل آيات نزلت من القرآن نوّهتْ بشأن العلم والتعليم: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( [العلق:1-5].
والعلم الذى نوّه به القرآن, وحفلتْ به آياته, ونوَّه به الرسول الكريم، وأحاديثه الشريفة، يشمل كلَّ معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء, وتزول بها غشاوة الجهل والشك عن عقل الإنسان, سواء أكان موضوعه الإنسان, أم موضوعه العالم، أم موضوعه الوجود والغيب, وسواء أكانت وسيلة معرفته الحسّ والتجربة, أم وسيلته العقل والبُرهان, أم وسيلته الوحى والنبوة.
فليس صحيحا ما شاع عند الغربيين ومن دار فى فلكهم: (أن العلم مقصور على ما قام على الملاحظة والتجربة)، وليس صحيحا أيضًا ما يتصوره بعض المسلمين المتدينين أو يصورونه من أن "العلم" فى القرآن والسنة، يعنى "العلم الديني" ولا شىء غيره)، وحاول بعض أهل العلم الدفاع عن هذه الدعوى !
ففى القرآن الكريم آيات أثنت على العلم وأهله, من حيث هو (علم), أي: معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء, دون النظر إلى كونه علمًا دينيًّا أو دنيويا، مثل قوله تعالى: ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( [الزمر: 9]. فهنا لم يذكر مفعول ) يعلمون( أى لم يقل: الذين يعلمون علم الدين أو الشريعة أو الطبيعة أو غيرها، بل نزّل الفعل المتعدى - وهو (يعلم)- منزل الفعل اللازم, فكأنّ المعنى: هل يستوى العالم والجاهل? والاستفهام إنكاريّ, على معنى أنهما لا يستويان.
ومثل ذلك قوله تعالى:) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( [آل عمران:18]، فالمفهوم من هذه الآية: أن (أولى العلم) الذين عطفهم الله تعالى على الملائكة فى الشهادة لله بالوحدانية, هم الذين استنارت بصائرهم بالعلم والمعرفة, سواء كان علمهم دينيًّا أم طبيعيا, وكم رأينا فى علماء الكون من شهد لله تعالى بالوحدانية والتفرّد بالقدرة والجلال والكمال، كما فى كتاب (أ. كريسى موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، الذى يتُرجم إلى العربية بعنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) ومثله كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم) بأقلام ثلاثين عالما متخصصا فى العلوم الكونية و الإنسانية.
ولكن الذى عجبتُ له أن بعض علماء الدين فى عصرنا جنحوا إلى هذا الرأى الغريب, وذهبوا إلى أن كل النصوص التى وردت فى آيات القرآن العظيم, وأحاديث الرسول الكريم, فى فضل العلم والعلماء, إنما يُقصد بها العلم الدينى وحده, وعلماء الدين دون غيرهم.
وقد يكون هذا صحيحا فى قليل من النصوص الواردة فى الأصلين العظيمين فى الإسلام: (القرآن والسنة), ولكن أغلب نصوصهما وردت عامة ومطلقة, تشمل كل علم دينى أو دنيوى, وبعضها لا يمكن أن يفهم منه إلا أنه العلم الدنيوى: العلم بالكون والحياة والإنسان, وما يجرى عليها من سنن.
وهذا ما نحاول أن نلقى عليه بعض الأشعة الكاشفة لما قد يلتبس على بعض الباحثين فى هذا الميدان.
تعليم آدم الأسماء كلها:
نبدأ هنا بالإنسان الأوّل, أبى البشر آدم عليه السلام, الذى قصّ القرآنُ علينا قصّته فى أكثر من سورة, ومنها سورة البقرة،التى انفردت بهذا الموقف العجيب, وهو مشاورة الله تباركت أسماؤه لملائكته فى استخلاف آدم فى الأرض: ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ( [البقرة:30].
وأراد الله تعالى أن يُظهر للملائكة فضل آدم وما خصّه الله به من مواهب وقدرات ترشّحه للخلافة فى الأرض, فعقد ما يشبه (المسابقة) أو (الامتحان) بينه وبينهم, فظهر تفوق آدم على الملائكة فى العلم, قال تعالى: ) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْ:تَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ( [البقرة:31-33].
تُرى أى نوع من العلم كان عند آدم? أهو علم دينى أم علم دنيوى؟
لا يمكن أن يكون علما دينيًّا؛ لأن آدم لم يكن قد أُنزل عليه وحْى, حتى يتكوّن من ورائه علم دينيّ, إنّما هو علم بأسماء الأشياء،التى أودعها الله فى الأرض, والتى سيحتاج آدم إلى التعامل معها.
والعلم بأسمائها يعني-والله أعلم- : العلم بخصائصها وفوائدها وما يتّصل بذلك من مهماتها فى الحياة، وهذا - بالقطع - ليس علما دينيًّا ولعله لو كان علما دينيًّا, لكان الملائكة أولى بالعلم به من آدم؛ لأن الملائكة هم الذين ينزلون بالوحى على رسل الله عليهم السلام.
علم يوسف تأويل الأحاديث:
وإذ تبيّنا فى قصة آدم أن العلم الذى علمه اللهُ آدمَ, وظهر به فضله على الملائكة، ليس علما دينيًّا, فنجد فى قصة يوسف عليه السلام أن العلم الذى علمه الله وخصّه به, وهو تأويل الأحاديث, ويعنى بها: الرؤى والمنامات, هو كذلك ليس بعلمٍ دينى.
فقد قال يعقوب لابنه يوسف : ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ( [يوسف:6].
وقال تعالى - بعد أن ذكر أن الذى اشتراه من مصر، وهو العزيز قال لامرأته - : ) أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ ( . ) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ( [يوسف:21].
وقال يوسف بعد أن جمع الله شمله بأبيه وإخوته، ودخلوا مصر بمشيئة الله آمنين: ) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّذ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ( [يوسف:101].
ومن الواضح أن علم تأويل الأحاديث الذى علمه الله ليوسف, ليس علما دينيا, بل هو علم يقوم على الفطنة والفراسة والحدس, فهو أقرب إلى علوم الدنيا منه إلى علوم الدين.
ولذا عبّر القرآن عنه بالظن فى قوله عن أحد السجينين، اللذين دخلا معه السجن, وأوّلَ رؤياه بأنه سينجو ويخرج من السجن, ويسقى سيده خمرًا, كما كان يفعل, قال تعالى: ) وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ( [يوسف:42].
وقال تعالى فى قصة يوسف: ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ([يوسف:22].
وهذا العلم آتاه الله ليوسف مع الحُكْم - أى الحِكمة - ليس هو علم النبوة, فلم يكن قد أوتيها بعْدُ, ولا علم الدين, فلم يكن فى مصر فى ذلك الوقت علم للدين يحصّله أو يطلبه، إنما هو المعرفة والبصيرة بالأمور, والاعتماد على العقل فى الاستنتاج واختيار البدائل ونحوها، وهذا العلم هو الذى اعتبره يوسف عليه السلام مرشحا أساسيا له لمنصب الولاية على خزائن أرض مصر, حين قال له ملكها: ) إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ( [يوسف:54-55].
فذكر يوسف عليه السلام سببَين يؤهلانه للمنصب, وهما الحفظ والعلم. والمراد بـ ( الحفظ ) : الأمانة التى تجعله يحفظ ما ائتُمن عليه من أموال وأعمال، و( العلم ) : يراد به المعرفة، والخبرة بما يحتاج إليه هذا المنصب المالى الاقتصادى الإدارى، من خبرة بأمور المالية، والاقتصاد، والزراعة، والإدارة، والتخطيط، والتموين, وخصوصا فى زمن الأزمة الاقتصادية الكبيرة التى تتوقعها مصر بعد سبع سنوات, وكيف يدّخر من سنوات الخصب لسنوات القحط .
ولايمكن أن يُراد من صفه ( عليم ) التى ذكرها يوسف: أنها تتعلق بعلم الدين- إذ لا دخل له فى الترشيح للولاية على خزائن الأرض.
علم موسى عندما بلغ أشده واستوى:
وكما ذكر الله تعالى عن يوسف أنه عندما بلغ أشدّه آتاه (حُكْما وعلما), ذكر ذلك عن موسى عليه السلام, حينما قص علينا نشأته وطفولته وشبابه فى سورة القصص, فقال تعالى: ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ( [القصص:14].
فالعلم الذى أوتيه موسى هنا, كالعلم الذى أوتيه يوسف هناك, وإن زاد موسى هنا بأن الله آتاه هذا العلم بعد أن بلغ أشدّه واستوى, أي: نضج واكتمل, وصهرته المِحن والشدائد منذ طفولته, وصناعته على عين الله تعالى.
علم داود وسليمان:
ومما ذكره القرآن فى شأن العلم: ما آتاه الله داود وسليمان عليهما السلام, فقد قال تعالى: ) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ( [النمل:15].
فأى علم آتاه الله داود، وابنه سليمان? هل هو العلم الدينى المحض? أو هو علم آخر? لقد بينتْ لنا الآيات التالية طبيعة هذا العلم, كما قال تعالى: ) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ( [ النمل:16].
بيّن سليمان أن العلم الذى فُضِّل به على كثير من عباد الله المؤمنين, هو:(علم منطق الطير), أى: لغة الطير والحشرات, وقد ذكر لنا القرآن نموذجا منها فى القصة حيث قال: ) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى وَعَلَى وَالِدَى وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ( [النمل:17-19].
وكذلك ما ذكره القرآن عن قصته مع الهدهد, وكيف أنبأه بقصة سبأ، وملكتهم بلقيس، فهذا هو العلم الذى علمه الله سليمان, ولم يكن علم الدين.
علم الذى أحضر عرش بلقيس من اليمن:
وفى قصّة سليمان مع ملكة سبأ, نجد واحدًا من ملئه استطاع أن يأتى بعرش بلقيس ملكة سبأ من اليمن إلى الشام فى لمْح البصر, بوساطة (علم عنده من الكتاب)، ولا يتصور أن يكون هذا العلم علمًا دينيًّا محضًا, يتعلق بالعقيدة والشريعة, فإن مهمة هذا العلم لاعلاقة لها بنقل الأشياء من مكان إلى آخر, بمثل هذه السرعة الهائلة, التى قصّها علينا القرآن فى قصة سليمان: ) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِى أَمِينٌ * قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى كَرِيمٌ( [النمل:38-40].
ولايمكن أن يكون هذا العالِم من الملائكة؛ لأن المفروض أنه من (ملأ) سليمان, فإنه خاطبهم بقوله: ) يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا( فكان الجن من ملئه, فقد سخرهم الله له, ولم يكن الملائكة من ملئه قطْعا, فإذا لم يكن من الجن فلا بد أنّه من الإنس, آتاه الله من العلم الطبيعى ما أمكنه أن يأتى بالعرش بمثل هذه السرعة العجيبة.
علم طالوت:
ومما ذكره القرآن عن العلم: ما آتاه الله طالوت, الذى ذكر القرآن قصته فى سورة البقرة, فقد قال تعالى فى قصة الملأ من بنى إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم, وكتب عليهم القتال ليحرروا أرضهم:) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ( [البقرة:247].
فما نوع العلم الذى زاد الله طالوت بسطة فيه? لا يمكن أن يكون علم الدين؛ لأن علم الدين عند نبيّهم الذى قال لهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا, ولكن العلم هنا يحدده السياق والمقام, وهو العلم بشؤون الحرب والفنون العسكرية, وإدارة المعارك, ونحوها مما تتطلبه القيادة الحربية.
وبهذا يتضح لنا تمام الوضوح أن (العلم) حينما يذكر فى القرآن ليس هو العلم الدينى وحده, كما يتصور كثير من أهل العلم الشرعى.
استخدام لفظة (العلم) ومشتقاتها فى غير العلم الديني:
ومما يدل على بطلان ذلك التصوّر: استخدام لفظة: (العلم) ومشتقاتها فى غير العلم الديني, كما تدل على ذلك آيات القرآن.
انظر إلى قوله تعالى: ) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [الأنعام:97].
فالعلم الذى وصف الله به هؤلاء القوم الذين فصل لهم الآيات، والذى جاء ذكره بعد قوله: ) فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم( [الأنعام:96]، لايمكن إلا أن يكون هو العلم الكونى, الذى يدخل فيه علم الفلك وما يتعلق به.
ومثل ذلك قوله تعالى: ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ( [الروم:22].
فالعلم المراد هنا: هو الذى به يتعرف على آيات الله فى الكون, علويه وسفليه, وفى سر اختلاف الألسنة والألوان, فهو يشمل علوم الكون, وعلوم الإنسان.
واختلاف الألسنة والألوان قد يراد به: اختلاف الأمم والشعوب فى لغتها وألوانها بعضها عن بعض, وهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
وقد يراد به اختلاف الأفراد فى أصواتهم، حتى إن لكل فرد منهم تميزا فى صوته يجعل له (بصمة) خاصة به، لا يشاركه فيها غيره.كما فى (بصمة) البنان، التى أشار إليها قوله تعالى: ) بَلَى قَادِرِين َعَلَى أَن ْنُسَوِّي َبَنَانَهُ( [القيامة:4]، ومثله الاختلاف فى الصورة، فكل واحد له صورته المستقلة المتميزة, مهما يكن شبهه بغيره.
ومثل ذلك قوله تعالى: ) وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ( [العنكبوت:43].
وفى القرآن بضعة وأربعون مثلا، وكان بعض السلف يبكى على نفسه إذا مر بمثل من القرآن ولم يفهم مغزاه, ويقول: قال تعالى: ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ( فأنا لست من العالمين! فالعالمون هناهم: الذين يعقلون الحكمة من وراء ضرب الأمثال للناس, فهم الذين يغوصون فى الأعماق ولايقفون عند السطوح.
ويقول تعالى:) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( [فاطر:27-28].
فالعلماء هنا - كما يبدو من السياق- ليسواهم علماء الدين, وفقهاء الشريعة, -على فضلهم ومكانتهم- وإنما هم الذين يعرفون آيات الله, ويكتشفون سنته فى خلقه, فيما ذكر من السماء, والنبات والجبال, والناس, والدواب, والأنعام, أى الذين يعرفون عظمة الله من خلال معرفتهم بعلوم الإنسان, وعلوم الحياة من نبات وحيوان وأرض, ومن خلال هذه المعرفة الحقيقية يخشون الله, إذ لا يخشى الله ويخاف مقامه حقا إلا من عرفه سبحانه.
وقال تعالى: ) هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [ يونس: 5].
فتفصيل الآيات هنا إنما ينتفع به الذين يعلمون أسرار الله فى الظواهر الكونية, من جعل الشمس ضياء، فيها النور والحرارة, والقمر نورا؛ لأنه يستمد نوره من الشمس, ومن تقدير القمر منازل لمعرفة عدد السنين والحساب.
وقال تعالى فى قصة الرهط التسعة من ثمود: ) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ*فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [النمل:50–52].
فالذين يعلمون هنا هم: الذين يعرفون سنن الله تبارك وتعالى فى التعامل مع المكذبين والظالمين, وأن مكره تعالى أعظم من مكرهم, وكيده أقوى من كيدهم، وأنه يمهل ولايهمل, وأنه يأخذهم وهم لايشعرون، وما ربك بغافل عما يعملون.
وفى كثير من الآيات يأتى العلم فيها بمعنى المعرفة الواعية, والإدراك الراشد للأمور, فهو ضد الجهل والغباء بصفة عامة, لا بمعنى تحصيل علم معين من علوم الدين أو الدنيا, وهذا فى الحقيقة أكثر ما جاء فى القرآن بصيغة (يعلمون) أو (تعلمون) مثبته أو منفية.
خذ مثلا قوله تعالى: ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [الأعراف:32].
فالذين يعلمون تفصيل الآيات هنا: هم أولو المعرفة الراشدة, الذين يميزون بين ما يعلم بطريق الحس, وما يعلم بطريق العقل, وما يعلم بطريق الشرع, فيأخذون كل علم من طريقه المخصوص به, وهم هنا يعلمون أن ما حرمه الله على عباده لايعرف إلا من طريق الوحي, فلا يفترون على الله الكذب ويقولون: هذا حلال وهذا حرام بغير برهان من الله.
وقد جاءت هذه الآية فى سياق نعى القرآن على أهل الجاهلية، دعاواهم على الله بغير الحق، أنه أمر بكذا أو حرم كذا، من غير سلطان أتاهم, فقبل ذلك بآيات قال تعالى: ) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( [الأعراف: 28].
وفى سورة الأنعام مناقشة تفصيلية للذين حرموا أنواعا من الأنعام بغير برهان من الله, ومن ذلك قوله تعالى:) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِى بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( [الأنعام:143-144].
ومثل ذلك قوله بعد ذكر بعض أحكام الأسرة:) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [البقرة:230].
فالمراد هنا: أنهم يعلمون بما لديهم من فقه ورشد: أن الله لايشرع إلا ما فيه الخير والصلاح لهم، فهم أهل علم ووعى، لا أهل جهالة وبلادة.
ومثل قوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [الأنعام:105].
فليس المراد هنا أنهم يعلمون علما معينا من علوم النقل أو العقل, بل المراد أنهم ليسوا من أهل الجهل والغباء.
وهذا ما نجده أيضا فى حالات نفى العلم,كما فى قوله تعالى: ) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ( [التوبة:6].
فليس المقصود نفى علم معين عنهم من علوم الشرع أو الكون, بل المقصود نفى العلم من حيث هو, أى أنهم ليسوا بأهل علم ومعرفة.
ونحوه قوله تعالى: ) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ( [التوبة:93].
ومثله فى سورة أخرى: ) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( [الروم:59].
وقوله: ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( [الجاثية:18].
فالناظر فى هذه الآيات وما شابهها، يتبين: أنها لا تنفى علما معينا من علوم الدين أوالدنيا, إنما تنفى العلم من حيث هو, فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يقام لهم وزن أو يحسب لهم حساب, بل هم من أهل الجهل الذين لا يعلمون، وكفى بالجهل وصمة وعارا.
ونحو ذلك قوله تعالى: ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ( [المنافقون:8].
فقد يكون المراد نفى العلم عنهم ودمغهم بالجهل المطلق, أو نفى العلم بهذه القضية المتحدث عنها, فهم لا يعلمون أن العزة لله جميعا, لأنه الخالق, ومالك الملك, وصاحب الأمر, ومن بيده ملكوت كل شىء, وهو يجير ولايُجار عليه، وأن العزة لرسوله, فهو الذى أرسله بالهدى ودين الحق، فهو يتكلم باسم الله, وينفذ أمر الله , ويبلغ رسالة الله, ومعه المؤمنون, فعزتهم من عزة الله, وحبلهم موصول بحبله, وقوتهم مستمدة من قوته, فلا يملك أحد أن يذل نفوسهم, أو يحنى رؤوسهم, وهم منسوبون إلى القوى العزيز.
أكثر الناس لايعلمون:
ولقد حكم القرآن فى آيات كثيرة على أكثرية البشر بأنهم ) لا يَعْلَمُونَ( بمعنى: أنهم ينقصهم العلم الحقيقى بهذه القضايا المهمة التى يتحدث عنها- ونعنى بالعلم الحقيقى: الإدراك الواعى الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل, وهو أمر مؤسف حقا, مع أن الله تعالى نصب الأدلة لعباده, من الكون المنظور, ومن الوحى المسطور, لكى يعلموا ويعرفوا, فمالهم لا يعلمون.
وإنما قلنا: الإدراك الجازم, لأن ما ليس بجازم لا يكون علما , بل ظنا إذا كان راجحا , ووهما إذا كان مرجوحا , وشكا إذا استوى الطرفان, ولهذا قابل القرآن بين العلم والظن فى قوله: ) وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( [الجاثية:24].
ووصفنا الإدراك الجازم بـ (المطابق للواقع); لأن غير المطابق ليس علما, بل هو جهل وغباء. وكذلك قلنا: الناشئ عن دليل, لأن ما ليس كذلك ليس علما, بل هو تقليد, بمعنى اعتماد قول الغير بلاحجة, وقد أجمعوا على أن التقليد ليس بعلم.
ولو أردنا أن نتتبع هذه الصيغة فى القرآن: ) وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (, أو) وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(, أو) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (، ونحوها، لاتسع بنا المجال, وطال بنا المقال.
العلم عند سلف الأمة:
والعلم عند سلف الأمة يشمل علوم الشرع, وعلوم العقل, وعلوم اللسان, أو قل: هو يشمل علم الدين وعلم الدنيا.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله فى كتابه الشهير (جامع بيان العلم): حدّ العلم عند العلماء والمتكلمين فى هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته, وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه, وعلى هذا من لم يستيقن الشيء، وقال به تقليدا، فلم يعلمه.
والتقليد عند العلماء غير الاتباع; لأن الاتّباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه.
والتقليد أن تقول بقوله، وأنت لاتعرف وجه القول ولا معناه, وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه, فتتبعه مهابة خلافه, وأنت قد بان لك فساد قوله, وهذا محرم القول به فى دين الله سبحانه وتعالى.
والعلم عند غير أهل اللسان العربى -فيما ذكروا- يجوز أن يترجم باللسان العربى علما , ويترجم معرفة, ويترجم فهما.
والعلوم تنقسم قسمين: ضرورى, ومكتسب.
فحد الضرورى: ما لايمكن العالم أن يشكك فيه نفسه, ولايدخل فيه على نفسه شبهة, ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر, ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل, كالعلم باستحالة كون الشيء متحركا ساكنا , أو قائما قاعدا , أو مريضا صحيحا فى حال واحدة.
ومن الضرورى أيضا وجه آخر يحصل بسبب من جهة الحواس الخمس, كذوق الشىء يعلم به المرارة من الحلاوة ضرورة, إذا سلمت الجارحة من آفة, وكرؤية الشىء يعلم بها الألوان والأجسام, وكذلك السمع يدرك به الأصوات.
ومن الضرورى أيضا علم الناس أن فى الدنيا مكة والهند ومصر والصين وبلدانا قد عرفوها, وأمما قد خلت.
وأما العلم المكتسب: فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر, ومنه الخفى والجلي, فما قرب منه من العلوم الضرورية كان أجلى, وما بعد منها كان أخفى.
والمعلومات على ضربين: شاهد, وغائب.
فالشاهد ما علم ضرورة, والغائب ما علم بدلالة من الشاهد، والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى, وعلم أسفل، وعلم أوسط.
فالعلم الأسفل هو: تدريب الجوارح فى الأعمال والطاعات, كالفروسية والسباحة والخياطة، وما أشبه ذلك، من الأعمال التى هى أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتى عليها وصف.
والعلم الأعلى عندهم: علم الدين الذى لايجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله فى كتبه وعلى ألسنة أنبيائه - صلوات الله عليهم أجمعين - نصا ومعنى, ونحن على يقين مما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل, وسنه لأمته من حكمته, فالذى جاء به هو القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, شفاء ورحمة للمؤمنين, آتاه الله الحكم والنبوة; فكان ذلك يتلى فى بيوته. قال الله تعالى:)وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ( [الأحزاب34].
يريد: القرآن والسنة, ولسنا على يقين مما يدعيه اليهود والنصارى فى التوراة والإنجيل; لأن الله قد أخبرنا فى كتابه عنهم أنهم )يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا([البقرة:79], ) وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( [آل عمران:78]. فكيف يُؤمَن من خان الله, وكذب عليه وجحد واستكبر?! قال الله تعالى: ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ( [العنكبوت:51]، وقد اكتفينا والحمد لله بما أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم من القرآن, وما سنه لنا عليه السلام.
قال أبو عمر: من الواجب على من لايعرف اللسان الذى نزل به القرآن, وهى لغة النبى صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من علم ذلك ما يكتفى به, ولا يستغنى عنه حتى يعرف تصاريف القول وفحواه, وظاهره ومعناه, وذلك قريب على من أحب علمه وتعلمه, وهو عون له على علم الدين الذى هو أرفع العلوم وأعلاها، به يطاع الله ويعبد, ويشكر ويحمد; فمن علم من القرآن ما به الحاجة إليه, وعرف من السنة ما يعول عليه, ووقف من مذاهب الفقهاء على ما نزعوا به وانتزعوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم, حصل على علم الديانة, وكان على أمة نبيه مؤتمنا حق الأمانة, إذا اتقى الله فيما علمه, ولم تمل به دنيا شهوته, أو هوى يرديه, فهذا عندنا العلم الأعلى الذى نحظى به فى الآخرة والأولى.
والعلم الأوسط هو: معرفة علوم الدنيا التى يكون معرفة الشىء منها بمعرفة نظيره, ويستدل عليه بجنسه ونوعه, كعلم الطب والهندسة.[29]
ومن هنا ذهب الإمام أبو حامد الغزالي, وغيره من علماء الأمة, إلى أن كل علم به قوام الدين أو الدنيا, فإن تعلمه وإتقانه فرض كفاية على الأمة مثل الطب والهندسة وغيرهما.
فإذا قام فى الأمة عدد كاف يلبى مطالبها, ويسد حاجتها, ويغنيها أن تكون كلا على غيرها فى النواحى المدنية والعسكرية, فقد سقط الإثم والحرج عن سائر الأمة, وإن لم يقم هذا العدد الكافى فى كل اختصاص تحتاج إليه, فالأمة كلها آثمة, لتضييعها هذه الفريضة الجماعية, الواجبة عليها بالتضامن, على تفاوت فى مستوى المسئولية, فمسئولية الجاهل ليست كمسئولية العالم, ومسئولية ذوى الشأن وأولى الأمر, ليست كمسئولية غيرهم من المغمورين.
بل ذهب الغزالى وغيره إلى أن تعلم أصول الصناعات المختلفة فرض على الأمة, من الحدادة والنجارة والنسيج والخياطة، وغيرها من كل ما لا يستغنى عنه المجتمع المدني.[30]
وفى عصرنا تدخل كل الصناعات "التكنولوجية" التى طورت بها الحضارة المعاصرة الحياة تطويرا هائلا , فطوى الإنسان المكان, واختصر الزمان, ووفر جهد الإنسان, وغدونا نتحدث عن ثورة "التكنولوجيا" وثورة "البيولوجيا" وثورة "الاتصالات", وثورة المعلومات "وغيرها من الثورات التى غيرت وجه الحياة, ويجب على أمة الإسلام أن يكون لها دورها فى هذه الثورات, وألا تقف متفرجة والعالم يعمل ويتحرك, ودينها يوجب عليها أن تكون فى مقدمة القافلة، لا فى ذيلها.
وقد أشار القرآن إلى صناعات شتى, مثل صناعة الحديد فى الجانب العسكري, والجانب المدنى, وإليه الإشارة بقوله تعالى:) وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ( [الحديد:25]. فقوله: )فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ( يشير إلى الصناعات الحربية, وقوله: ) وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ( يشير إلى الصناعات المدنية, وقد علم الله نبيه داوود صناعة الدروع:) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ( [الأنبياء:80].)وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ( [سبأ:10-11], ومثل ذلك: الصناعات الغذائية كما فى قوله: )وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا( [النحل:67].
ومنها: الصناعات المتخذة من الأنعام: ) وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( [النحل:80].
ومنها: صناعات التجميل والزينة: ) وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ( [الرعد:17].)وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا( [النحل:14].
ومنها: صناعة السفن, وقد أجادها نوح عليه السلام: ) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا([المؤمنون:27]. ) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ( [هود:38].
ومنها: صنعة البناء, وقد تعلمها إبراهيم وابنه إسماعيل, وهما اللذان بنيا أول بيت وضع للناس: ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ( [البقرة:127].
ومنها: صناعة السدود العظيمة كما فعل ذو القرنين: ) آتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( [الكهف:96].
والقطر: هو النحاس المذاب, وهو إذا أضيف إلى الحديد زاده صلابة وقوة.
ومنها الصناعات التى عملها الجن لسليمان : ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ( [ سبأ:13]. ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( [ص:37].
وعمل الجن لها لايعنى أن بنى الإنسان لا يقدرون عليها, ففى قصة سليمان رأينا بعض الناس ممن عنده علم من الكتاب يقدر على ما لم يقدر عليه العفريت من الجن، إلى غير ذلك من الصناعات التى أشار إليها القرآن.
تكوين العقلية العلمية فى القرآن:
ومن أعظم ما عنى به القرآن فى مجالنا: هو تكوين (العقلية العلمية) فهناك ما يمكن أن نطلق عليه "العقلية العامية" أو "العقلية الخرافية", وهى التى تصدق كل ما يقال لها أو يعرض عليها, ولا تضعه موضع امتحان, بل تأخذه قضية مسلمة, ولاسيما إذا جاء من قبل من تعظمه, مثل الأجداد والآباء, أو السادة والكبراء، فتقول: إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. أو وجدنا سادتنا على ذلك يسيرون.
وفى مقابل هذه العقلية المتبعة, توجد عقلية أخرى مخالفة, لها مواصفاتها وخصائصها, وهى التى عمل القرآن بآياته المشرعة والموجهة على إنشائها, وصياغتها, وإبرازها لتقوم بدورها فى الحياة.
ومن المقرر المعلوم: أنه لا يمكن أن يزدهر العلم, وتتأصل جذوره, وتمتد فروعه, بل لايمكن أن ينشأ علم صحيح إلا فى مناخ نفسى وفكرى يهيئ للعقول أن تفكر, وللأفكار أن تتفتح, وللآراء أن تناقش, ولصاحب الحجة أن يدلى بحجته, وهذا ما يعمل القرآن على إيجاده فى الحياة الإسلامية, وبعبارة أخرى: يعمل القرآن بدعوته القوية, وبتوجيهاته المتكررة على تكوين "العقلية العلمية" المتحررة, التى لا ينهض علم إلا على عاتقها, فهو يرفض "العقلية الخرافية", ويرفض "العقلية المقلدة" ويرفض "العقلية المتخرصة" ويرفض "العقلية المتبعة للهوى".
أما كيف يكوِّن القرآن بتعاليمه هذه العقلية العلمية, فهذا ما نوضحه فى هذه الصحائف، ومن قرأ القرآن وتدبره بحق، وجد مقومات هذه العقلية مجسمة فيه.
1- رفض الظن فى موضع اليقين:
وأول ما توصف به هذه العقلية كما بين القرآن: أنها ترفض الظن فى كل موضع يطلب فيه اليقين, كما فى مقام تأسيس العقائد التى تقوم عليها نظرة الإنسان إلى الوجود, أعني: إلى الله والكون والإنسان والحياة- فهذه القضايا الكبرى لايكفى فيها الظن, بل لابد فيها من العلم, أى العلم اليقيني- قد يكفى الظن فى قضايا الفروع والجزئيات, التى تقوم عليها تعاملات الناس بعضهم ببعض, ولهذا تقبل شهادة الشهود مع احتمال الخطأ والكذب, ويقبل حديث الواحد, مع احتمال ذلك- أما فى القضايا الكلية الكبرى, فلايستغنى فيها عن اليقين.
ومن هنا أنكر القرآن على المشركين اتباعهم الظن فى هذه القضايا, وقال عز وجل:) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ( [يونس:36].
وفى سورة أخرى: ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا( [النجم: 28]. )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ([الأنعام: 148].
وقال فى شأن المشركين عموما, ودعوتهم للأصنام من دون الله : ) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ( [يونس: 66].
بل جعل القرآن اتباع الظن و الخرص وراء ضلال أكثرية أهل الأرض وإضلالهم عن سبيل الله، يقول تعالى:) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ([الأنعام: 116].
وحقيقة الخرص - كما قال الراغب في(مفردات القرآن)-: "إن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال: خرص, سواء أكان مطابقا للشىء أو مخالفا له، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع, بل اعتمد فيه على الظن والتخمين, كفعل الخارص فيخرصه, وكل من قال قولاعلى هذا النحو قد يسمى كاذبا, وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر عنه"([31]) .
ويقول القرآن عن أهل الكتاب : ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ( [النساء:157–158] .
ويقول عن المشركين وعلاقتهم بالآخرة وقيام الساعة: ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ( [الجاثية:32].
2- عدم اتباع الأهواء والعواطف فى مجال العلم:
ولاترفض العقلية العلمية الظن فقط, بل ترفض الهوى والعاطفة أيضا, فالهوى يعمى ويصم, واتباع العواطف قد يضلل الإنسان عن الحق, وخصوصا العواطف الهوج, مثل الحب الشديد, والكره الشديد, والغضب الشديد.
ولا غرو أن جاء فى الحديث الصحيح: "لا يقضى القاضى وهو غضبان"([32]), لأن انفعال الغضب يسد عليه منافذ الإدراك الصحيح لجوانب القضية المختلفة، فيظهر حكمه غير سليم.
ولهذا عاب القرآن على المشركين هذين الأمرين: اتباع الظن وهوى الأنفس معا ، فقال فى شأن أصنامهم التى اتخذوها آلهة (اللات, والعزى, ومناة الثالثة الأخرى): ) إِنْ هِى إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى([النجم 23].
وقال الله تعالى لداود: )يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب( [ص: 26].
وقال فى خطاب رسوله : ) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ( [القصص: 50].
وقال تعالى فى ذم اتباع الهوى : ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ( [الجاثية:23]. وفى سورة أخرى يقول: )أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا* أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا( [الفرقان:43- 44].
ولأجل ذلك قال ابن عباس: "شر إله عبد فى الأرض: الهوى"!
فالعقلية العلمية هى التى تنحى الأهواء والانفعالات والعواطف جانبا, وتنظر إلى الأمر نظرة موضوعية محايدة.
3- رفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف:
والعقلية العلمية فى نظر القرآن: هى التى ترفض الجمود على ما كان عليه الآباء والأجداد, أو التسليم المطلق لما عليه السلف المعظمون, ولاتقبل أن تقلد هؤلاء أو أولئك فيما اعتقدوه أو فعلوه, بل لابد من وضعه موضع الاختبار, والنظر إليه فى ضوء العقل, وبميزانه المستقل, فليس من المعقول أن يفكر لنا الأموات ونحن أحياء, وأن يلزمنا الأقدمون بنتائج عصور مضت, إنما نحن ملزمون بما تهدى إليه عقولنا, وما ينتهى إليه تفكيرنا.
فإن من الخطل والخطر أن نفكر برؤوس غيرنا, وقد خلق الله لنا رؤوسا خاصة بنا ! ولهذا شن القرآن حملة عنيفة على الجمود والتقليد فى كل صوره, ففى سورة البقرة يقول تعالى: ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ( [البقرة: 170- 171].
وفى سورة المائدة يقول سبحانه: ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ( [المائدة: 104].
ففى سورة البقرة بين أنهم ينقصهم العقل, وهنا بين أنهم ينقصهم العلم, وفى كلتا الحالتين بين أنهم ينقصهم الاهتداء إلى الصواب.
وفى سورة هود يقول تعالى:) فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ( [هود: 109].
وفى سورة الزخرف يقول تعالى:)إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ *وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ( [الزخرف:22-24].
فبين الله تعالى أن هذا هو موقف المترفين من أهل الشرك من قديم: الاتكاء على ما كان عليه الآباء.
وكذلك ذكر القرآن الكريم فى جملة سور هذا الجمود المقلد, أو التقليد الجامد, من الأبناء للآباء.
ففى قصة هود بعد دعوته البليغة وحواره القوى, نقرأ: ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا( [الأعراف:70].
وفى قصة إبراهيم: ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ ( [الأنبياء:52-54].
وفى قصة شعيب: ) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ([هود:87].
وفى قصص الرسل عامة مع أقوامهم يقول الله تعالى: ) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ( [إبراهيم:10].
يعنون بالسلطان المبين: الآيات الكونية الخارقة, وكلها تعلات فارغة, فقد جاءت الرسل من قبل بهذه الآيات فكذبوا بها, كما فعلوا مع صالح وغيره.
يقول العلامة ابن الجوزى: فى التقليد إبطال منفعة العقل, فقد خلق للتدبر والتأمل, وقبيح بمن أعطى شمعة أن يطفئها ويمشى فى الظلمة[33]!
4ـ رفض التبعية للسادة والكبراء:
ولم تقف حملة القرآن على الجمود العقلى الذى يتمثل فى تقليد الأبناء للآباء, والأحفاد للأجداد, بل شمل الجمود الذى يتمثل فى تبعية الشعوب والجماهير للسادة والكبراء والجبابرة وأصحاب السلطان والثراء.
لقد ذم القرآن هذه التبعية العمياء, وحمل الشعوب وزرها, مع المتبوعين من أئمة أهل النار.
يقول القرآن على لسان نوح عليه السلام: ) رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا( )نوح:21).
وقال فى قصة هود وقومه عاد:) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ( هود:59(.
وقال فى قصة موسى وفرعون: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ( (هود:96-97)
وقال فى سورة أخرى:) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ( (الزخرف:54).
وقد عرض القرآن لنا من مشاهد الآخرة ما يجسد لنا تلاوم المتبوعين والأتباع يوم القيامة, وتبرُّؤ بعضهم من بعض, ومحاولة كل فريق إلقاء التبعة على الآخر.
) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا( (الأحزاب 66-68).
) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ([البقرة:166-167].
) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ *قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [سبأ:31, 33].
) قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ([الأعراف:38-39].
وهنا حمَّل القرآن الأتباع تبعة ضلالهم, فقد منحهم الله من المواهب والقدرات والآلات ما يمكنهم من اتباع الهدى, فعطلوا ذلك, وساروا فى ركاب المضلين, فما أغنوا عنهم من الله شيئا.
صحيح أن المتبوعين المضلين يحملون من الأوزار أكثر من الأتباع, لأنهم يحملون وزر الضلال, ووزر الإضلال, كما قال تعالى: ) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ([النحل:25].
) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ( [العنكبوت:13].
ولكن هذا لاينقص من أوزار الأتباع الذين ألغوا عقولهم, وداروا فى فلك المضلين.
5ـ التعبد بالنظر العقلى:
ومن مقومات هذه العقلية العلمية التى ينشئها القرآن: أنها عقلية تقوم على النظر والتفكر, فالنظر عندها فريضة, والتفكر لديها عبادة.
والقرآن حافل بالآيات التى تحض على النظر, وتدعو إلى التفكر, بأساليب شتى, وصور متنوعة.
والمراد بالنظر: النظر العقلى, وهو الذى يستخدم الإنسان فيه فكره فى التأمل والاعتبار, بخلاف النظر البصرى, فهو الذى يستخدم الإنسان فيه عينه.
قال الإمام الراغب: "النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته, وقد يراد به التأمل والفحص, وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص, وهو الرؤية, يقال: نظرت فلم تنظر: أى لم تتأمل ولم تتروَّ.
فعلى الإنسان أن يبدأ بالنظر فى نفسه أولا, ثم فى أقرب الأشياء إليه, يقول تعالى: )فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ( [الطارق:5-8].
) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا *فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ( [عبس:24-32].
ثم ينتقل بنظره إلى ما حوله متأملا متدبرا معتبرا, لينتقل من المصنوع إلى الصانع, ومن الأثر إلى المؤثر, ومن الكون إلى المُكوِّن.
يقول القرآن: ) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ( [الغاشية:17-20].
)أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِى وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( [ق:6-8].
) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ( [يونس:101].
) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ( [الأعراف:185].فالنظر هنا عام شامل, يشمل كل ما خلق الله, من الذَّرَّة إلى المجرّة.
ومن داخل النفس إلى آفاق الكون الفسيح, الذى لا يعلم سعته إلا خالقه:)وَفِى الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ( [الذاريات:20-21].
وأحيانا يأمر القرآن بالسير فى الأرض للنظر فى آيات الله فى الكون، وفى الحياة، وفى التاريخ: ) قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ( [العنكبوت:20].
) قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ( [النمل:69].
) قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( [الأنعام:11].
) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( [آل عمران:137].
) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( [النحل:36].
) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ([الروم:9].
وقد تكرر هذا المعنى فى القرآن عدة مرات: الحث على السير فى الأرض والنظر فى سيرة الأولين ومسيرتهم, وكيف نفذت فيهم سنن الله التى لاتتخلف, رغم ما كان لديهم من كثرة العَدد, وقوة العُدد.
المهم أن يمروا على آثار القوم وما خلفوه وراءهم بعقول تفكر, لا بمجرد أعين تبصر، كما قال تعالى: )أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ( [الحج:46].
وبهذا شمل هذا النظر العقلى كل ما يقبل النظر: الإنسان نفسه وماحوله من نبات:) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ([ق:10]. وحيوان, وخصوصا: ) الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ([الغاشية:17]. وجماد:)الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ([الغاشية:20].و)السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ([الغاشية:18]. وكل ما فى العالم علويه وسفليه بهذا الشمول الذى نبهت عليه الآية:)فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ([الأعراف:185].
ولم يكن النظر مقصورا على الأشياء, بل تعداها إلى الأحداث والسنن التى تدل عليها, مثل: سنن الله فى عقوبات المكذبين, وفى تغيير ما بالناس من نعم إذا غيروا ما بأنفسهم من خير، وسنته فى سقوط الأمم رغم عمارتها للأرض وكثرة أعدادها.
ومثل النظر العقلي: الرؤية العقلية, فقد حث القرآن فى آيات كثيرة على هذه الرؤية التى يقصد بها رؤية العقل لا رؤية العين, وهى رؤية تشمل كل المخلوقات فى الأرض أو فى السماء مما يبين عظمة خالقها, وروعة تدبيره, وبالغ حكمته, وسابغ نعمه على عباده, كما تشمل الوقائع والأحداث, التى تبرز قدرة الله تعالىوهيمنته على الكون وحده, كما تبرز عدالته وأنه يملى ويمهل, ولكنه لا يغفل ولا يهمل.
تقرأ مثل هذه الآيات:)أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ([النحل:79].
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }[الملك:19].
)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ([يس:71- 73].
وينتقل من الطير والأنعام، إلى الأرض ومياهها ونباتاتها وعلاقة السماء بها, والظواهر المتعلقة بها من الليل والنهار, يقول سبحانه:
)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ([الشعراء:7].
) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ([السجدة:27].
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ([الحج:63].
والخطاب فى مثل هذه الصيغة: ) أَلَمْ تَرَ( للنبي، ولكل مكلّف فى الأمة:
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ([الحج:65].
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِى الأَلْبَابِ( [الزمر:21].
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( [لقمان:29].
) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ([النمل:86].
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ([فاطر:27- 28].
) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ([سبأ:9].
) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ([النحل:48].
وتشمل هذه الرؤية تاريخ القرون الماضية, وصنع الله فى أهلها, من الطغاة والمتجبرين, الذين أفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها، وطغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد.
) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ( [الأنعام:6].
لم يغنِ هؤلاء ما أنشأوا من عمارة شاهقة, وما أبدعوا من آثار مادية, فقد شادوا البنيان، وخربوا الإنسان, وأصلحوا الأرض، وأفسدوا البشر, وعنوا بالطين ونسوا الدين, وعاشوا للدنيا وأغفلوا الآخرة, فلم تغنِ عنهم دنياهم من الله شيئا: ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ( [الفجر:6-14].
بهذا حكم القرآن على الحضارات المادية المحضة أنها غير قابلة للبقاء والاستمرار, وأن عاقبتها إلى دمار وتبار.
6ـ لاتقبل دعوى بغير برهان:
ومن معالم العقلية العلمية فى القرآن: أنها لا تقبل أى دعوى تُدَّعى بغير برهان علمي, يشهد لها, ويدل على صحتها وصدقها, وما لم يوجد دليل يثبت الدعوى أو القضية المطروحة, فهى فى نظر العقل المسلم مرفوضة ساقطة.
وهذه الرؤية التى دعا إليها القرآن شملت العالم العلوي كالعالم السفلي:
) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَى أَفَلا يُؤْمِنُونَ( [الأنبياء:30].
) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( [العنكبوت:19].
وهذه الرؤية ينبغى أن تشمل النظر فيما خصهم الله به من نعم لاتتوافر لغيرهم، وهذا خطاب لأهل مكة خاصة:)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ([العنكبوت:67].
ومما تشمل هذه الرؤية آثار فعل الله فى الناس والمجتمعات, من بسط وقبض, ورفع وخفض, وإعزاز وإذلال, يقول تعالى: ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ([الروم:37].
) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ([الرعد:41].
) أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ( [الأنبياء:44].
ومعنى نقص أطراف الأرض: أن الله يديل من دولة لأخرى, ويأخذ من الدولة الكبيرة لحساب دولة صغيرة, وتلك الأيام نداولها بين الناس.
لقد رفض القرآن ما شاع لدى كثير من أرباب الديانات السابقة من قبول الدعاوى العريضة, والمعتقدات الموروثة, دون برهان يدل على صحتها, ولم يرضَ بمسلك الذين قالوا:"اعتقد وأنت أعمى"! أو"أغمض عينيك ثم اتبعنى "!
إن كل مؤمن بعقيدة مطالب بإقامة البرهان على صدقها, أو التسليم لمن يدعوه إلى عقيدةٍ غيرها، يؤيدها الدليل والحجة.
وبهذا قرر القرآن هذه القاعدة الجليلة الكبيرة: (أن لا دعوى بغير برهان)! نقرأ فى ذلك حديث القرآن عن دعاوى أهل الكتاب, وتعقيبه عليها: ) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( [البقرة:111].
ونقرأ كذلك حديثه مع المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى, وحواره معهم فى قضية الوحدانية: )أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ([النمل:64].
وفى سورة أخرى يقول: )أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ( [الأنبياء:24].
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( [الأحقاف:4].
وفى قضية التحريم والتحليل, التى تجاوزوا فيها حدودهم, فحرموا وحللوا بالهوى، أو بالوهم والظن، أو بمجرد التقليد الأعمى, يناقشهم القرآن: ) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِى بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( [الأنعام:143].
)سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ([الأنعام:148].
فأبطل بذلك دعوى الجبرية, الذين يزعمون أن ما هم فيه من ضلال الشرك وتحريم الحلال, إنما هو بمشيئة الله تعالى, يقصدون: المشيئة الملجئة لهم, التى لايملكون معها اختيارا ولا إرادة, وكذبوا، ما لهم على هذا من دليل فإن كان لديهم علم فليخرجوه.
وفى قضية ادعاء البنوة لله, وأنه سبحانه اتخذ ولدا من الملائكة - الذين زعموا أنهم بنات الله ! - أو من البشر، مثل المسيح الذي قال النصارى فيه: ابن الله, ومثل عزير الذى قال اليهود فيه: ابن الله, نقرأ: )قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( [يونس:68].
يعني: ما عندكم من حجة تؤيدكم فيما قلتم, إن هو إلا قولٌ على الله بلا علم.
1ـ رعاية سنن الله فى الكون والمجتمع:
ومن معالم "العقلية العلمية" التى ينشئها القرآن: احترام السنن والقوانين التى أقام الله عليها نظام الكون, ونظام المجتمع, وهى سنن وقوانين لها صفة العموم والشمول, فهى تحكم على الناس جميعا , أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم, حاضرهم وباديهم, قويهم وضعيفهم; مؤمنهم وكافرهم, لاتحابى أحدا , ولا تتحامى أحدا , الكل فى ميزانها سواء.
كما أن لها صفة الثبات والدوام, فهى لاتتغير ولاتتبدل, وهى تجرى على الآخرين كما جرت على الأولين, وتعمل فى عصر سفن الفضاء, عملها فى عصر الجمل سفينة الصحراء.
يقول الله تعالى: ) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( [آل عمران:137].
وقد ذكر القرآن كلمة "سنن" مجموعة منكرة, كما فى هذه الآية, كما وردت مفردة ومعرفة بالإضافة كما فى الآيات الأخرى. اقرأ فى ذلك هذه الآيات من القرآن المكي: ) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا([الإسراء:76-77].
) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِى الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا( [فاطر:42-43].
واقرأ فى القرآن المدني: )مَا كَانَ عَلَى النَّبِى مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا( [الأحزاب: 38].
كان هذا تعقيبا على قصة زينب بنت جحش وطلاقها من زيد بن حارثة متبنَّى الرسول صلى الله عليه وسلم , وتحرجه من ذلك, حتى لايقال: تزوج محمد امرأة ابنه!
وفى نفس السورة: ) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا( [الأحزاب:60-62].
وقال تعالى فى سورة أخرى: ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا( [الفتح:22-23].
والملاحظ: أن هذه الآيات كلها ـ مكية ومدنية ـ أكدت ثبات السنن واطرادها ودوامها, كما أنها جميعا تتحدث عن السنن الاجتماعية.
أعني: سنن الله فى الاجتماع البشرى: فى النصر والهزيمة, والنجاة والهلاك, والبقاء والزوال، والنهوض والسقوط.
ومن أجل ذلك أنكر القرآن "السحر" واعتبره من عمل الشياطين, ومن أساليب الكفرة, واعتبره كفرا، أو قريبا من الكفر, وعَدَّ تعلمه مما يضر ولا ينفع- قال تعالى: ) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( [البقرة:102].
والرسول صلى الله عليه وسلم أكد وجوب رعاية سنن الله تعالى, بقوله وعمله وتقريره, كما هو واضح فى سنته وسيرته عليه الصلاة والسلام.
حينما كسفت الشمس يوم مات ابنه إبراهيم, قال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم, وقد كان شائعا فى اعتقادهم أن الشمس لاتكسف, والقمر لايخسف, إلا لموت عظيم فى الناس, ولو كان عليه الصلاة والسلام ممن يسكت على باطل، لسكت على هذا القول، الذى يضفى على أسرته هالة من العظمة والقدسية الزائفة, ولكنه أنكر ذلك ورفضه جهرة, وخطب فى الناس قائلا : [ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله, لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته, فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا ]([34]).
وقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - كل ما لايقوم على السنن الطبيعية والاجتماعية فى أمور الحياة والرزق والطب والتداوى والعلاقات المختلفة.
ومن هنا أكد تحريم السحر, وجعله من الكبائر أو "الموبقات", أى المهلكات التى يجب تحذير الأمة منها, فقال: [ اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله تعالى, والسحر, وقتل النفس...] الحديث([35]).
وأنكر كذلك "التنجيم" الذى يقوم على التنبؤ بالغيبيات والمستقبليات, وربط ذلك بالنجوم, وحركاتها فيما زعموا, وهو الذى قيل فيه: "كذب المنجمون ولو صدقوا " وهو غير علم الفلك الذى يقوم على أساس من المشاهدة والحسابات الرياضية.
يقول الرسول الكريم: [ من اقتبس علما من النجوم, فقد اقتبس شعبة من السحر, زاد ما زاد] ([36]).
وشدد النكيرعلى اتخاذ التمائم والرُّقَى الجاهلية, وأمر بمراعاة الأسباب الطبيعية فى التداوى والعلاج.
روى عنه ابن مسعود قوله: [ إن الرقى والتمائم والتولة شرك] ([37]).
والتولة (بكسر التاء وفتح الواو): شيء يصنعة النساء (من ضروب السحر) للتحبب إلى أزواجهن.
وقال: [ من علق تميمة فقد أشرك] ([38]).
إن المسلمين فى العصور الأولى رعوا هذه السنن, واحترموا شبكة الأسباب والمسببات, فأقاموا حضارة مُثْلى, نشأت فى رحابها علوم كونية ورياضية واجتماعية، بجوار العلوم الدينية, امتدت جذوعها, وبسقت فروعها, وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
على خلاف المتأخرين من المسلمين، الذين ضيعوا شرائع الدين الحق، وقواعد السنن فى الخلق، ولم يفلحوا فى إحقاق الدين، ولا إقامة الدنيا، وهم الآن يريدون أن يعيدوا من جديد ما بدأه أسلافهم من قبل، ليرعوا العقيدة، ويحفظوا الشريعة، ويحققوا المقاصد، ويُحسنوا الفقه، ويعرفوا فقه السنن، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، وفقه الواقع، حتى ينهضوا من عثرتهم، ويرجعوا إلى ما كان عليه آباؤهم الأولون.
وهو ما نتوقعه لهم أن يديل الله لهم، وأن ينزل عليهم نصره وتمكينه، )إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ( [الصافات:172-173]
منقولة .للامانة العلمية
0 التعليقات :
إرسال تعليق